جميل راتب من «البهظ بيه» إلى «أبو الفضل».. الشيطان والمثالي
فنان جميل ملامح وجهه ينعكس فيه براءة الأطفال، خفيف الظل، دائم البسمة، هرب من دراسة القانون بحثًا عن شغفه وحبه للتمثيل، فوجد ضالته فى فرنسا، وقدم عددا من الأفلام هناك، ووقف على خشبة المسارح العالمية، ما أصقل موهبته، التي لم يكن هو نفسه مقتنعًا بها، حتى عاد إلى مصر، وبدأ المخرجون يشكلونه ويوظفون خبراته وملامحه فى أدوار تليق به.. ورغم عالميته، لم يبحث عن البطولة المطلقة، إنما بحث عن تقديم أدوار تلمس الجمهور، فنال ما أراد، وأبهرنا الكبير جميل راتب بمسيرة طويلة من الأعمال الخالدة، التي تلون فيها بين الخير والشر، ومنها شخصيتان لا يمكن أن يمرا علينا، ونحن نودعه اليوم، مرور الكرام، بل يجب الوقوف أمامهما، لأنهما جسدا قدرات «راتب» التمثيلية، وتمكنه من الأدوار، فنجده الرجل الصالح فى ثوب «أبو الفضل»، والشيطان تحت عباءة «سليم البهظ».
أبو الفضل
«أبو الفضل جاد الله عويس»، هي الشخصية التي قدمها جميل راتب، ضمن أحداث مسلسل «يوميات ونيس»، وهو الجد لأحفاد ونيس، (الفنان محمد صبحى)، فهو الأب الذي غرس في ابنه الأخلاق والمبادئ، فقدم الشخصية بإتقان شديد، ما جعل الجمهور يتعلق به، ويحب وجوده المثالى، فهو الميزان الذي ينقذ الأسرة من الاختلال، ورغم أن صبحى يقدم الشخصية الرئيسية في العمل، وهو دائما ما يحوز على الوقت الأكبر في كل حلقة، ويلقي بمواعظه، إلا أنه فى بعض الأوقات يخرج عن هدوئه، ويتخذ قرارات خاطئة في ثورة غضبه، ليأتى راتب ليصلح الوضع، فيجلس معه ليصلح ما أفسده ونيس، ثم يلقن الجميع دروسًا في الحياة.
سليم البهظ
في فيلم «الكيف» نجد النقيض، وتمحى ملامحه البريئة، ليندمج راتب فى شخصية تاجر المخدرات، ويردد كلام الكار بـ«معلمة»، لتجد أمامك شخصية «سليم البهظ»، أو «البهظ بيه» كما ينادوه، وهو أحد المسيطرين على «سوق الكيف» في المحروسة.. هذا الشخص الذي لا يمتلك أي مبدأ، ولا يتورع عن إيذاء الناس وتدميرهم مستغلًا سقوطهم ضحايا لـ«شهواتهم»، فنراه يعذب جمال أو (مزاجنجي)، الفنان يجدسها محمود عبد العزيز، ثم يحول أخاه، الفنان يحيى الفخراني، إلى مدمن كي ينفذ طلباته، ويعد له «الخلطة» التي يكتسح بها «السوق».. الكاتب محمود أبو زيد برع في رسم شخصيات العمل بعناية، لكن راتب أيضًا جعلك تصدق كل ما يقوله، تندهش من منطقه في الحوار، وتتعجب من قسوته وشره.
كيف قدم جميل راتب وجهى العملة؟
فى شخصية أبو الفضل لا يجب أن يغيب عن ذهنك ملحوظة، وهي أن راتب استطاع أن يبدع في دور الأب رغم أنه لم يرزق بأبناء، لكنه أدى بسلاسة وبمشاعر جياشة، وكأنه يمتلك أسرة كبيرة بالفعل.. راتب تزوج من فرنسية لكنه رفض الإنجاب منها، والسبب الذى صرح به، وقد يدهشك قليلا، هو خوفه من عدم التزامه بمتطلبات الأبوّة تجاه ابنه أو ابنته، فكيف له أن يقدم دور المربى بكل هذه العبقرية؟
أما إذا انتقلنا لشخصية الشرير «سليم البهظ»، سنجد أيضا مفارقات كثيرة، كيف له أن يقدم تاجر المخدرات بكل هذا الإتقان، وهو ابن الطبقة الأرستقراطية، لم يختلط بتلك النوعية من البشر من قبل، نظراته وملابسه وهدوئه فى الكلام حتى ملامح وجهه التى كانت تتبدل بين الثقة المفرطة والغضب المكتوم، كل هذا يظهر لك مدى اندماجه مع الشخصية بل واتحاده معها، ومازال الجمهور حتى الآن يحفظ جمله الحوارية وإفيهاته التى كانت يقتلع بها الضحك وسط مشاهد متوترة، حينما يتحاور مع ضحيته الدكتور.. ومن جمله الشهيرة في هذا الفيلم: «ﺍﻟﻜﻴﻒ ﺷﻬﻮﺓ، ﻭﺍﻟﺸﻬﻮﺓ هي اللى ﺑﺘﺸﺪ ﺍﻟﻘﺮﺵ ﻣﻦ ﺟﻴﻮﺏ ﺍﻟﻨﺎﺱ».
راتب حينما سئل عن الشخصية قال: «لم أكن مقتنعًا بالدور الذي مثلته في فيلم الكيف لأنه غير مفهوم، وألفاظه صعبة، ولم تكن واضحة بالنسبة لى»، لكن مخرج العمل على عبد الخالق كان متأكد من أنه سيبدع فيها، ولذا حصل من ورائها، وفي نفس عام صدور الفيلم، على جائزة أحسن ممثل.
اليوم فقدنا ممثلا عبقريا بمعنى الكلمة، يجب أن نقف أمام أدواره طويلًا ليس فقط لنبدي إعجابنا، ولكن لكي نرى كيف كان الرواد يؤدون أمام الكاميرات، ربما رحل اليوم بجسده، ولكن ما قدمه سيجعل ذكراه حية دائمًا.