اخبار الفن

أفلام مُنعت من العرض لأسباب سياسية.. «لاشين» تنبأ بالثورة !!


في مصر العشرينيات والثلاثينيات، الملكية والمحتلة من قِبل بريطانيا، كانت المحاولات الأولى لصنع الأفلام، ولأن فناني المسرح كانوا ينتقلون من فوق خشبته إلى شاشات السينما كان هناك تأثير قوي وعميق لفنه على تلك الإرهاصات، وعليه أيضًا فإن قالبي الميلودراما والكوميديا المُهيمنان على المسرح كانا الأكثر انتشارًا في سينما تلك الفترة، فنجد الأفلام متنوعة ما بين ملوك الميلودراما يوسف وهبي وأمينة رزق، ونجوم الكوميديا نجيب الريحاني وعلي الكسار وفوزي الجزايرلي.

وسط هذه الأجواء، جاء “لاشين”، الفيلم الكبير فكرًا وفنًا، الذي كان من الممكن أن يفتح طريقًا جديدًا في السينما المصرية، إلا أن مفاجأة مصادرته في اليوم الأول من عرضه، عقب حفلته الأولى بسينما “ديانا”، يوم 17 مارس 1938، قضت على هذا الحلم آنذاك، بسبب ما يتضمنه الفيلم من مساس بالذات الملكية ونظام الحكم، حسب ادعاء مسئول الرقابة حينذاك، وكيل وزارة الداخلية، بأوامر مباشرة من السرايا الملكية، وبذلك جعل السينمائيين الأوائل يتمسكون بالأفلام الآمنة، التي تحكي حدوتة ولا تثير قضية، وتبتعد عن الواقعية وتتعلق بأهداب المليودراما والكوميديا.

“لاشين” إنتاج شركة طلعت حرب للتمثيل والسينما (ستوديو مصر فيما بعد)، التابعة لبنك مصر والذي كان يتمتع بحماية مجموعة الباشاوات والبكوات، لذلك كان من المدهش أن يتم وقف عرض أحد أفلامه التي تتميز بسخاء الإنتاج، وارتفاع المستوى من الناحية الفنية، وهو عن قصة الكاتب الألماني فون ماين، وسيناريو ستيفن هاوس، وتولى أمر نستختها العربية أحمد رامي وأحمد بدرخان، ومن إخراج الألماني فريتز كرامب، وكان اكتشافًا للمونتير، والمخرج الكبير فيما بعد، نيازي مصطفي، واستغرق إعداده عامين.

بطل الفيلم حسن عزت ولد ودرس بالإسكندرية، ثم سافر إلى الولايات المتحدة، ليُشارك هناك في عدد من أفلام هوليوود، ثم يحضر إلى مصر فقط ليُشارك في “لاشين” قبل أن يصدمه قرار المنع، فيعود إلى هوليوود مجددًا ويستقر هناك حتى وفاته في 2001 عن 95 عامًا، البطولة النسائية كانت من نصيب نادية ناجي، وكانت وجهًا جديدًا معبرًا، إلا أن الفيلم كان تجربتها الأخيرة أيضًا، بالإضافة إلى مشاركة عشرة آلاف من الكومبارس، ويحتل الفيلم المركز رقم 22 في قائمة أفضل 100 فيلم بذاكرة السينما المصرية.

تعرض الفيلم بقدر كبير من الجرأة لمسائل سياسية بالغة الحساسية، حيث يكشف عن الأسباب التي تؤدي إلى اندلاع الثورة، ويفضح ما يدور داخل القصر الحاكم، من انغماس في الملذات والفساد، وقدّم جموع المواطنين، لأول مرة، كقوة لا يُستهان بها، ولذلك خشيت الرقابة أن يكون الفيلم إسقاطًا على الوضع آنذاك، وأن يكون داعيًا إلى ثورة جياع، وخاصة أن توقيت الانتهاء من تصوير المشاهد صاحب استقالة وزارة النحاس باشا بعد صراعه مع الملك فاروق، وصدر قرار بمنع الفيلم.

يبدأ الفيلم بجملة مكتوبة على الشاشة تنبه بأن الأحداث تدور في القرن الثاني عشر، ثم في أول مشهد يطالعنا علامة فلكي قادم من الجنوب “باتاني” (قام بدوره منسي فهمي)، ممتطيًا جواده، نذيرًا لجموع الناس، ويقول: “يا اخوانا، يا أهل البلد، امسكوا أيديكم، هايجيلكم وقت تدموا فيه على اللي ضاع منكم، النيل مش هايفيض، الترع هتنشف، الأرض هتجف، هتجوعوا، افتحو عينيكم وإلا حتحصل ثورة تهز أركان البلد”، يقوم أعوان الوزير “كنجر” (قام بدوره فؤاد الرشيدي)، بالقبض عليه بتهمة إثارة البلبلة وترويج الشائعات، وفي مشهد آخر، نرى رأسه المقطوعة مدلاة من أحد أبراج قصر السلطان.

في الشوارع والسوق، الجميع يتحدث عن عدل ونزاهة وشجاعة قائد الجيش “لاشين” (قام بدوره حسن عزت)، الذي انتصر علي الأعداء المغول، ومع إيقاع الطبول، يتقدم القائد على رأس الجيش، من عمق المجال في الصحراء، ومعه الأسرى والأسلاب، بينما في قصر السلطان (قام بدوره حسين رياض)، العابث وراء شهواته ونزواته، تظهر الدسائس والمؤامرات، وزير خائن يتعاون مع المغول “كنجر”، يرشق “لاشين” بنظرات كراهية وحقد، بينما السلطان يُثني على قائده المنتصر ويُهديه سيف القائد وقلنسوته.

يسير الفيلم، بعد هذه المقدمات، في اتجاهين: أحدهما يتعرض إلى حالة الجماهير في الشوارع والأسواق، والتي تزداد تدهورًا، المجاعة بدأت تعم البلاد، أرض زراعية مشققة من العطش، ترع بلا ماء، حيوانات عجفاء، أشجار ميتة، أناس وجوهها منهكة يعمها الوهن تهرب من جوع الأقاليم إلى القاهرة، يقودهم بطل شعبي “يوسف” (يُجسده أحمد البيه)، يشد أزر الناس لمواصلة السير إلى العاصمة.

الاتجاه الآخر يتوغل في أحراش القصر، حيث السلطان اللاهي مع حريمه من ناحية، ووزيره الخائن الذي يواصل مؤامراته من ناحية ثانية ويقترح أن يقسو السلطان على هؤلاء الفلاحين النازحين، وأن يُظهر لهم بأسه وقوته، ويقول: “الشيء الوحيد الذي يهابه شعب متمرد هو البطش الشديد”، بينما “لاشين” يرفض المقترح، ويقول: “الشعب المتألم الآن من الجوع واليأس ينتظر من مولاه أن يناصره في نكبته، فإذا بدأنا باستعمال القوة دفعناه إلى الثورة”.

يتم اعتقال “لاشين” بتهمة غوايته للجارية “كليمة” التي تحبه ويحبها الحاكم (تُجسدها نادية ناجي)، وتُرفع السيوف في وجه النازحين، يقف البطل الشعبي حائلًا بين الجنود والشعب صارخًا من أعماقه: “حرام عليكم، ما تستعملوش القوة مع اللي بيموتوا من الجوع، دول اللي كانوا بيتعبوا روحهم علشان تاكلوا وتعيشوا ودلوقتي محدش سائل فيهم، حتى السلطان”، الثورة تندلع في الداخل، بينما العدو يدق أبواب البلاد من الخارج.

المصور مصطفى حسن والمخرج فريتز كرامب أثناء تصوير لاشين

نهاية الفيلم المكتوبة في السيناريو، تختلف عن النهاية الموجودة الآن في شريط الفيلم (شاهده من هــــنـــا)، وجاء الاختلاف نتيجة تعديلات تمت بعد منع الفيلم، حيث أن النهاية الحقيقية فيها أن الجماهير الثائرة تتجه إلى قصر السلطان وتطالب باطلاق سراح “لاشين” وتنادي باسمه، وفي الوقت ذاته، يقتل “كنجر” السلطان، ويهتف رجاله باسمه كسلطان جديد للبلاد، بينما النهاية المعروضة فيها اقتحام الجماهير للقصر وإنقاذ “لاشين”، ثم يقتل “كنجر” في مبارزة، ويقود الجماهير إلى مبايعة السلطان العادل، الذي ضللته بطانته.

حاول الفنان أحمد سالم، مدير شركة طلعت حرب آنذلك، إقناع رجال الرقابة بخطأ تقديرهم، فذهب إلى رئيس الوزراء محمد محمود باشا يشكو له تعنتهم، فلم ينشغل رئيس الوزراء بالمشكلة وانشغل بدخوله مكتبه بدون طربوش والسيجار في يده وجلسته واضعا “رجل على رجل”، فعنفه واتهمه بالاستهتار وطرده من مكتبه، خرج سالم من مكتبه غاضبًا، واتصل بالصحف المعارضة التي شّنت حملة ضد الحكومة، ووصفتها بالمرتعشة أمام فيلم سينمائي، وظلت الأزمة إلى أن التقى طلعت باشا حرب برئيس الديوان الملكي علي باشا ماهر، وعرض عليه الأمر، وصرح له بأن المنع يُعرضه لخسارة لا تقل عن 25 ألف جنيه، وطلب منه الوساطة مع الحكومة لحل الأزمة، واستجابت الحكومة وأفرجت عن الفيلم بعد حذف مشاهد المجاميع التي تمثل الثورة، واستقالة أحمد سالم من منصبه.

اختفت نسخ “لاشين” الأصلية لعقود عدة تالية، ولم يعد يذكره حتى ستديو مصر، وبعد أقل من عشر سنوات، بعد مصادرة الفيلم، وبالتحديد في عام 1947، صدر قانون الرقابة الذي تنص بنوده على منع مناظر الأحاديث والخطب السياسية المثيرة، والمواضيع التي تحتوي دعاية ضد الملكية أو النظام القائم، وكذلك منع إظهار مناظر الإخلال بالنظام الاجتماعي، كالثورات أو التظاهرات أو الإضراب، والمفارقة المدهشة، أنه بعد خمس سنوات من فرض هذا القانون، وبعد إنتاج الفيلم بـ14 عامًا، أُطيح بالنظام الاجتماعي كله، بما في ذلك الملكية، وتحققت نبوءة “لاشين” المقموع.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: هذا المحتوى محمي من النسخ !!